بسم الله الرحمن الرحيم
مواقف متنوعة من كتاب جوانب من سيرة الإمام ابن باز
أذكر أن رجلاً قدم من الاتحاد السوفيتي بعد تفكك الشيوعية، فلما دخل على سماحة الشيخ سأل عنه، فقلت له: ها هو سماحة الشيخ سَلِّم عليه، فتردد قليلاً، فقلت له: أقدم، وسلم، سماحة الشيخ من أيسر الناس، فقال: لا أجرؤ على السلام عليه، فحاولت به مراراً حتى سلم على سماحته.
.................................................. ..........................
في يوم من الأيام وقبل وفاته بثلاثين عاماً حضر إلى مسجد؛ ليلقي فيه محاضرة، فلما شَعُر بأن المسجد مفروش بالحصير، وأن سجادةً قد وضعت له خاصة طواها بنفسه، وطرحها جانباً؛ لأنه لا يريد أن يتميز عن غيره.
ومن ذلك أن السيارة الممنوحة له ولأمثاله من قبل الدولة إذا انتهت مدتها، وأرادوا تغييرها بأحدث منها قال: وما عِلَّتُها فيقال له: انتهت مدتها؛ فماذا تريدون بدلاً عنها يا سماحة الشيخ ؟ فيَسْأَل: وما أنواع السيارات ؟ فيذكر له الكاديلاك، والمرسيدس، والفورد، والبيوك، وغيرها فيقول: والكابرس ؟ فيقال له: لا يليق بمقامك، فيقول: لماذا ؟ أليس القبر واحداً ؟!
طُلب من سماحة الشيخ تغيير أثاث بيته في مكة أكثر من مرة، وهو لا يستجيب، ويقول: لنا في هذا البيت ستة عشرة سنة، ولا ندري ماذا بقي من أعمارنا!.
ولما كثر عليه الإلحاح، وقيل له: إن أثاث المجلس غير صالح، وغير مناسب، وإن تغييره ضروري توقف كثيراً. وبعد إلحاح شديد أمر بتشكيل لجنة خماسية ذكرهم، وقال: اجتمعوا، واكتبوا ما ترونه، وحصل ذلك، وتم إصلاح ما يحتاج إلى إصلاح، وذلك في آخر أيامه رحمه الله .
.................................................. ..........................
وفي بيته الذي في الرياض دعت الحاجة إلى إيجاد بعض الغرف، فقلت له يا شيخ ! البيوت المعروضة للبيع في هذا الحي كثيرة، وأرى أن يشترى بيتٌ يكون لبعض العمالة الموجودة لديكم، وللضيوف، فتغير وجه سماحته، وقال: نحن مسافرون !!.
يعني السفر إلى الدار الآخرة.
ومن صور تواضُعِهِ تواضُعُهُ للمرأة والمسكين والسائل، وأذكر قبل ثلاثين سنة من وفاته أنني رأيته خارجاً من المسجد الجامع، فقيل له هناك امرأة تريد إجابة عن أسئلتها، فما كان منه إلا أن اتكأ على عصاه، وأصغى لها، وأجاب عن أسئلتها حتى انصرفت. !
ومن ذلك أنه في عام 1402هـ لما أصيب بمرض في القلب، ولازم الفراش في المستشفى التخصصي عدة أيام، وأجريت له الفحوصات اللازمة_أوصاه الأطباء بتناول بعض الأشياء، ومنعوه من بعضها ككثير الدهن، والملح، ثم وضعوا له طعاماً خاصاً.
فلما علم بذلك أبى، وقال: الذي يوضع لغيري يوضع لي، وما يحصل إلا الخير !.
وفي عرفة في حج عام 1418هـ كان جالساً في المصلى، ومئات الناس حوله، فجيء له بفاكهة مقطعة؛ لأن عادته في المشاعر في الحج أنه لا يأكل في الغالب إلا الفاكهة، والتمر، واللبن.
فلما وضع أمامه قال: أكُلُّ الحاضرين وضع لهم مثل هذا ؟
قالوا: لا، فقال: أبعدوه، وغضب.
.................................................. ..........................
حدثني بعض من عاش معه في الدلم لما كان قاضياً فيها أنه يهدى إليه من بعض جيرانه لبن فيقول سماحته: إن كان كثيراً فقدموه للضيوف، وإن كان قليلاً فلا أريد منه شيئاً.
وفي عام 1402هـ كان يلقي درساً في الحرم، فسئل: هل الأنثى مثل الذكر يحلق رأسها، ويوزن، ويُتصَدق بوزنه ورقاً ؟
فأجاب رحمه الله بقوله: ما عندي علم أَسْأَلُ إخواني طلبة العلم، وأخبركم إن شاء الله.
وأذكر أنه في يوم من الأيام اتصل شاب صغير بسماحة الشيخ، وقال: يا سماحة الشيخ ! الناس بأشد الحاجة إلى علماء يُفتُونهم، وأقترح على سماحتكم أن تجعلوا في كل مدينة مفتياً؛ ليسهل الاتصال.
فقال له سماحة الشيخ: ما شاء الله، أصلحك الله، كم عمرك ؟ فقال: ثلاثة عشر عاماً.
فقال لي سماحة الشيخ: هذا اقتراح طيب، يستحق الدراسة، اكتب إلى الأمين العام لهيئة كبار العلماء بهذا، فكتبتُ ما أملى به، ومما جاء في كتابه: أما بعد فقد اتصل بي بعض الناصحين، وقال: إنه يقترح وضع مفتين في كل بلد، ونرى عرضه على اللجنة الدائمة؛ لنتبادل الرأي في الموضوع.
.................................................. ..........................
ومما يذكر في هذا الصدد أن صاحب الفضيلة الشيخ الدكتور محمد تقي الدين الهلالي المغربي رحمه الله وهو يكبر سماحة الشيخ بسنوات_قال قصيدة طويلة ماتعة في سماحة الشيخ رحمه الله .
وبعد أن نُشِرت تلك القصيدة في مجلة الجامعة السلفية في الهند كتب سماحته تعقيباً على تلك القصيدة مبدياً تكدره وامتعاضه؛ فإليكم القصيدة أولاً، ثم تعقيب سماحة الشيخ.
يقول الشيخ الدكتور الهلالي رحمه الله في أول شهر شعبان 1397هـ:
خليلي عُوْجَابي لنغتنمَ الأجرا
على آل باز إنهم بالعلى أحرى
فما منهمو إلا كريم وماجدٌ
تراه إذا ما زرته في الندى بحرا
فعالمهم جَلَّى بعلم وحكمةٍ
وفارسهم أولى عداة الهدى قهرا
فسل عنهمُ القاموسَ والكتُبَ التي
بعلم حديث المصطفى قد سمت قدرا
أعُمُّهموا مدحاً وإني مقصرٌ
وأختص من حاز المعالي والفخرا
أمامَ الهدى عبدَالعزيز الذي بدا
بعلم وأخلاق أمام الورى بدرا
تراه إذا ما جئته متهللاً
ينيلك ترحيباً ويمنحك البِشْرى
وأما قِرى الأضيافِ فهو إمامُه
فحاتم لم يتْرك له في الورى ذكرا
حليمٌ عن الجاني إذا فاه بالخنا
ولو شاء أرداه وجلله خُسرا
يقابل بالعفو المسيء تكرماً
ويبدل بالحسنى مساءته غُفرا
وزهده في الدنيا لو آن ابن أدهم
رآه ارتأى فيه المشقة والعسرا
وكم رامت الدنيا تحلُّ فؤاده
فأبدلها نُكْراً وأوسعها هَجْرا
فقالت له: دعني بكفِّك إنني
بقلبك لم أطمع فحسبي به وَكْرا
خطيب بليغ دون أدنى تلعثم
ومن دون لحن حين يكتب أو يقرا
بعَصْرٍ يرى قُراؤه اللحنَ واجباً
عليهم ومحتوماً ولو قرأوا سطرا
بتفسير قرآنٍ وسنة أحمدٍ
يُعمِّر أوقاتا وينشرها درّا
وينصر مظلوماً ويسعف طالباً
بحاجاته ما إن يخيِّب مضطرا
قضى في القضا دهراً فكان شُريحَه
بخرج أزال الظلم والحيف والقسرا
وكليةَ التشريعِ قد كان قُطْبَها
فأفعمها علماً فنال به شكرا
وجامعة الإسلام أطلع شمسَها
فَعَمَّت به أنوارُها السَّهْلَ والرعرا
تيمّمَها الطلابُ من كل وُجْهَةٍ
ونالوا بها علماً وكان لهم ذخرا
فمن كان منهم ذا خداع فخاسر
ومن كان منهم مخلصاً فله البشرى
ولم أر في هذا الزمان نظيره
وآتاك شيخاً صالحاً عالماً بَرَّا
وأصبح في الإفتا إماماً مُحَقِّقَاً
بعلم وأخلاق بدا عَرْفُها نَشْرا
وأما بحوث العلم فهو طبيبُها
مشاكله العسرى به أُبدلت يسرا
ويعرف معروفاً وينكر منكراً
ولم يخش في الإنكار زيداً ولا عمرا
وما زال في الدعوى سراجاً منوِّراً
دُجَى الجهل والإشراك يدحره دحرا
بدعوته أضحت جموعٌ كثيرةٌ
تحقق دين الحق تنصره نصرا
ألم نره في موسم الحج قائماً
كيعسوب نحلٍ والحشودُ له تترا
وما زال في التوحيد بدر كماله
يحققه للسامعين وللقُرا
ويثبت للرحمن كل صفاته
على رغم جهمي يعطلها جهرا
ويعلن حرباً ليس فيه هوادة
على أهل إلحاد ومن عبدالقبرا
وما قلت هذا رغبة أو تملقاً
ولكن قلبي بالذي قلته أدرى
فيارب مَتِّعْنَا بطول حياته
وحفظاً له من كل ما ساء أو ضرَّا
فلو كان في الدنيا أناس كمثله
بأقطار إسلام بهم تكشف الضرَّا
فيا أيها المَلْكُ المعظم خالدٌ
بإرشاده اعمل تحرز الفتح والنصرا
فقد خصَّه الرحمن باليمن والمنى
وآتاك شخصاً صالحاً عالماً برَّا
فأنت لأهل الكفر والشرك ضيغم
تذيقهموا صاباً وتسقيهموا المُرا
فلا زلت للإسلام تنصر أهله
وتردي بأهل الكفر ترديهموا كسرا
وحبَّبك الرحمنُ للناس كلِّهم
سوى حاسد أو مشرك أضمر الكفرا
وقد أبغض الكفارُ أكرَمَ مُرسلٍ
وإن كان خير الخلق والنعمة الكبرى
عليه صلاة الله ثم سلامه
يدومان في الدنيا وفي النشأة الأخرى
كذا الآل والصحب الأجلاء مابكت بكت
مطوقةٌ ورقاءُ في دوحة خضرا
وما طاف بالبيت العتيق تقرباً
حجيج يُرَجُّون المثوبة والأجرا
وما قال مشتاق وقد بان إلفه
خليلي عوجا بي لنغتنم الأجرا
فيا أيها الأستاذ خذها ظعينةً
مقنعةً شعثاء تلتمس العذرا
فقابلْ جفاها بالقبول وأولها
من العفو جلباباً يكون لها سترا
.................................................. ..........................
وبعد أن نشرت تلك القصيدة في مجلة الجامعة السلفية في بنارس_الهند_أرسل سماحة الشيخ عبدالعزيز رحمه الله في 23/3/1398هـ تعقيباً إليك نصه:
من عبدالعزيز بن عبدالله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم فضيلة الشيخ عبدالوحيد الرحماني مدير مجلة الجامعة السلفية في بنارس_وفقه الله للخير آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد:
فقد اطلعت على قصيدة نُشرت في العدد التاسع من مجلتكم لفضيلة الدكتور تقي الدين الهلالي تتضمن الغلو في المدح لي، ولعموم قبيلتي، وقد كدرتني كثيراً، فرأيت أن أكتب تنبيهاً للقراء، باستنكاري لذلك وعدم رضائي به.
وإليك ما كتبت برفقه راجياً المبادرة بنشره في أول عدد يصدر في المجلة.
أثابكم الله وشكر سعيكم.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة، والدعوة والإرشاد
وإليكم أيها القارئ نَصَّ ذلك التنبيه:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه.
أما بعد فقد اطلعت على قصيدة نشرت في العدد التاسع من مجلة الجامعة السلفية في بنارس_الهند_لفضيلة الدكتور تقي الدين الهلالي، وقد كدرتني كثيراً، وأسفت أن تصدر من مثله، وذلك لما تضمنته من الغلو في المدح لي ولعموم قبيلتي، وتَنَقُّصِه للزاهد المشهور إبراهيم بن أدهم رحمه الله وتفضيلي عليه في الزهد، وعلى حاتم في الكرم، وتسويتي بشريح في القضاء إلى غير ذلك من المدح المذموم الذي أمر الرسول"بحثي التراب في وجوه من يستعمله.
وإني أبرأ إلى الله من الرضا بذلك، ويعلم الله كراهيتي له، وامتعاضي من القصيدة لما سمعت فيها ما سمعت.
وإني أنصح فضيلته من العَوْد إلى مثل ذلك، وأن يستغفر الله مما صدر منه، ونسأل الله أن يحفظنا وإياه وسائر إخواننا من زلات اللسان، ووساوس الشيطان، وأن يعاملنا جميعاً بعفوه، ورحمته، وأن يختم للجميع بالخاتمة الحسنة؛ إنه خير مسؤول.
ولإعلان الحقيقة وإشعار من اطلع على ذلك بعدم رضائي بالمدح المذكور جرى نشره، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه، ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العملية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
.................................................. ..........................
مرة أرسل إليه أحد المسؤولين_جزاه الله خيراً_مبلغاً كبيراً، وقال: هذه هدية مني لسماحتكم فأخذه، ورأيت في وجهه الكراهة، وعجبت من أخذه إياه؛ إذ ليس ذلك من عادته؛ فشرع يوزع من ذلك المبلغ.
ولما كان الغد قال لي: اتصل بفلان_وهو يعمل عند ذاك المسؤول الذي أهدى المبلغ_وقل له يأتي؛ لأنني كرهت هذا المبلغ.
فلما اتصلت به، وأخبرته جاء إلى سماحة الشيخ فقال له سماحته: بلِّغ فلاناً شكري ودعائي له، وأخبره أنني بخير، ولست بحاجة إلى ذلك المبلغ، وقل له: إن كان يسمح بتوزيعه بين خواص الفقراء فلا بأس، وإلا أعطيناه المبلغ؛ وجزاه الله خيراً.
فلما وصل الخبر إلى المسؤول الذي أهدى المبلغ أذن بتوزيعه على نظر سماحته.
وقبل قرابة عشرين عاماً من وفاة سماحته لما انتهى بناءُ بيته الذي في الطائف أرسل إليه مسؤول كبير_جزاه الله خيراً_مبلغاً وقال هذه هدية مني لسماحتكم؛ لتأثيث المنزل.
فرده سماحته، وقال: نحن بخير، ولا نحتاج إلى شيء؛ وجزاك الله خيراً.
وأنا أعلم أن سماحته مدين، وأنه بحاجة، ولكنه غني القلب، عزيز النفس، لا ينظر إلى ما في أيدي الناس.
وقبل ما يقارب ثلاثين عاماً من وفاة سماحته هَمَّ ببيع بيته لما كثرت ديونه؛ فعلم بذلك بعض المسؤولين، وأرسل إليه بعض المال، وقال: بلغني أنك تريد بيع بيتك بسبب ضيق ما في يدك، وهذا مما كدرني؛ فآمل قبول هديتي، والإذن لي بإبلاغ جلالة الملك في هذا الشأن.
فأجابه سماحة الشيخ بالشكر والدعاء، وقال له: ما سمعتم من الحاجة صحيح كما لا يخفى من كثرة الضيوف والمحتاجين في الرياض والمدينة، ولكن لا أسمح بإبلاغ الملك، وشكره ودعا له دعاءً كثيراً.
.................................................. ..........................
ولما عاد سماحة الشيخ إلى منزله أُخبر الملك فيصل بأن الشيخ جاء بسيارة أجرة، فتكدر الملك كثيراً، وأرسل إلى سماحة الشيخ سيارة، وأخبره بتكدره.
ولما أخبر سماحة الشيخ بذلك قال: ردوها، لا حاجة لنا بها، سيارتنا تكفينا.
يقول الشيخ إبراهيم: فقلت: يا سماحة الشيخ هذه من الملك، وأنت تستحقها، فأنت تقوم بعمل عظيم، ومصلحة عامة، والذي أرسلها ولي الأمر، وإذا رددتها ستكون في نفسه، والذي أراه أن تقبلها.
فقال سماحة الشيخ: دعني أصلي الاستخارة، فصلى، وبعد الصلاة قال: لا بأس نأخذها، وكتب للملك ودعا له.
كتب سماحة الشيخ رحمه الله مقالاً بعنوان خطر مشاركة المرأة للرجل في عمله+ وذلك لمجلة منار الإسلام الصادرة عن وزارة العدل والشؤون الإسلامية في دولة الأمارات العربية المتحدة.
وبعد أن نشر المقال أرسلوا كتاباً إلى سماحة الشيخ ضمنوه شكرهم، وشفعوه بشيك مقابل تلك المشاركة، فأرسل إليهم سماحة الشيخ رداً وذلك برقم 2/1 بتاريخ 11/1/1399هـ، وإليك رد سماحته رحمه الله :
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبدالعزيز بن عبدالله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم مدير مجلة المنار وفقه الله آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد:
فأعيد لكم كتابكم برقم 183م في 27/11/1398هـ ومشفوعه الشيك رقم 110262 بالمبلغ الذي جعلتموه مكافأة لنا فيما ننشره من مقال في الحق، وأخبركم أنه ليس من عادتنا أخذ مكافأة على ما ننشره من المقالات في الدعوة إلى الحق، أرجو مسامحتنا في ذلك.
شكر الله سعيكم، وبارك في أعمالكم، وأعانكم على كل خير؛ إنه خير مسؤول.
.................................................. ..........................
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.
وأذكر أن أحد المسؤولين الكبار عرض على سماحته الخروج للنزهة في وقت الربيع، فقال سماحة الشيخ: أنا لا أرغب الخروج، وليس من عادتي.
فقال له المسؤول: النفس تحتاج إلى الراحة، وتغيير الجو، وشم الهواء.
فقال سماحة الشيخ_ممازحاً_: الذي يرغب تغيير الجو، وشم الهواء النظيف يخرج إلى السطح ويكفيه ذلك.
ومما يحضرني من القصص في هذا القبيل ما ذكره الشيخ عبدالرحمن ابن دايل_وهو من قدامى كتاب سماحة الشيخ وعمره قريب من عمر سماحة الشيخ، فهو من مواليد 1332هـ تقريباً، وقد عاش مع سماحته ما يقارب أربعين سنة؛ يقول: كنا في المدينة إبَّان عمل سماحته في الجامعة الإسلامية، وذات يوم سافر سماحته إلى قرية بدر التي تقع على الطريق بين جده والمدينة على الطريق القديم، حيث ذهب لمهمة دعوة يلقي خلالها محاضرة وكنت أنا والشيخ ابراهيم بن عبدالرحمن الحصين رحمه الله معه في السيارة؛ فلما بدأ سيرنا ودعا سماحته بدعاء السفر التفت رحمه الله وقال: توكلوا على الله، يعني ابدؤا بقراءة المعاملات، فقلنا: يا شيخ_غفر الله لك_نحن دائماً نقرأ، ولا نتمكن من الخروج خارج المدينة، وهذه هي فرصتنا؛ دعنا نستمتع بالرحلة، وننظر إلى الجبال والأودية، ونتفكر في مخلوقات الله.
فضحك سماحته وقال: اللهم اهدنا فيمن هديت، اللهم اهدنا فيمن هديت؛ ليقرأ الشيخ إبراهيم، وأنت تفكر في مخلوقات الله كما تقول، وبعد أن ينتهي الشيخ إبراهيم، أملي عليك، وينظر الشيخ إبراهيم ويتفكر وقت الإملاء، وهكذا.
وذات مرة جاءه مطلِّق فقال له: ما اسمك ؟ قال: ذيب، قال: وما اسم زوجتك قال: ذيبة؛ فقال سماحته مداعباً: أسأل الله العافية ! أنت ذيب، وهي ذيبة، كيف يعيش بينكما أولاد ؟
ومن النماذج على دعابة سماحة الشيخ أنه كان قبل وفاته بعام واحد مدعواً عندي، بمناسبة سكناي بيتي الجديد، وكان المجلس مليئاً بالمشايخ وطلاب العلم، وعلى رأسهم سماحة الشيخ عبدالعزيز رحمه الله وصاحب الفضيلة الشيخ العلامة عبدالله بن جبرين، وصاحب الفضيلة الشيخ عبدالله الفنتوخ، وصاحب الفضيلة الشيخ عبدالعزيز السدحان وجمع من المشايخ من الزلفي.
وكان سماحة الشيخ يعمر المجلس بالفوائد، والإجابة على الأسئلة، وحصل أنَّ حديثاً طويلاً دار حول الرقية، وتلبس الجني بالأنسي.
ومما دار في ذلك المجلس أن الشيخ عبدالعزيز السدحان ذكر أنه ورد في ترجمة أحمد بن نصر الخزاعي رحمه الله أنه رقى رجلاً فيه مس من الجن، فتكلمت على لسانه جنية، فقالت لأحمد بن نصر: يا شيخ لن أخرج من هذا الرجل حتى يدع القول بخلق القرآن.
فتبسم سماحته رحمه الله وقال: ما شاء الله، هذه جنية سنية، هذه من أهل السنة والجماعة.
في مرضه الأخير، وقبل وفاته بمدة يسيرة جداً توفي رجل من أهل الرياض اسمه سليمان الغنيم، وكان هذا الرجل مُسِنَّاً، محسناً، صالحاً، محباً لسماحة الشيخ، وله مكانة عند الشيخ؛ فاتصل أحد أبناء ذلك الرجل بسماحة الشيخ وقال: إن أبي قد توفي، ونأمل أن تُصَلُّوا عليه، وتحضروا جنازته، فقال الشيخ: إن شاء الله نفعل.
وبعد ذلك بقليل جاءه خبر وفاة الشيخ صالح بن غصون رحمه الله فذهب للصلاة على جنازة ابن غصون مع أن سماحته كان تحت وطأة مرضه الأخير، وكان متعباً جداً، وقد سقط في السيارة على من بجانبه، وتقيأ وهو في الطريق.
وبعد أن صلى على جنازة الشيخ ابن غصون رحمه الله وذهب لتعزية أهله، لم ينس الرجل المذكور الذي توفي في ذلك اليوم؛ بل ذهب إلى قبره وهو على تلك الحال من الإعياء، وصلى عليه بعد العصر، وبعد المغرب ذهب إلى أهل المتوفى، وعزاهم وصبَّرهم !!
منقول من الموقع الرسمي لسماحة الوالد عبدالعزيز بن باز يرحمه الله